الـجـزائـر

جرائم حرب ومقابر جماعية: تحقيق في الماضي المظلم للجنرال آيت وعرابي

إن تعيين الجنرال عبد القادر آيت وعرابي، المعروف أيضًا باسم الجنرال “حسان”، لقيادة جهاز المخابرات الداخلية الجزائرية (المديرية العامة للأمن الداخلي) يؤكد تحولًا استراتيجيًا في الموقف الأمني للبلادوقد سُوِّق لعودته، في الخطاب الرسمي والإعلامي الموالي، على أنها خطوة تصحيحية جاءت في سياق توتر العلاقات مع فرنسا، وفشل محاولات اختطاف أمير بوخرص وهشام عبود، وردٌّ على ما اعتُبر تقصيرًا من سلفه، الجنرال عبد القادر حداد.

لكن، استبدال رئيس المخابرات الداخلية – وليس رئيس المخابرات الخارجية – يشير إلى أولويات مختلفة. لو كان هدف النظام هو حلحلة الأزمة الدبلوماسية مع باريس، لكانت الخطوة المنطقية هي استبدال – على الأقل – الجنرال فتحي رشدي موساوي، رئيس المديرية العامة للتوثيق والأمن الخارجي، الذي لا يزال يخضع لمذكرة توقيف دولية ويُعتبر على نطاق واسع مسؤولاً عن الإخفاقات الاستخباراتية في الخارج. بدلاً من ذلك، عزلت الحكومة رئيس المخابرات الداخلية، وهي خطوة تشير إلى إعطاء أولوية واضحة لتعزيز القبضة الداخلية على حساب الشؤون الخارجية. يتزامن هذا التركيز الداخلي مع تحولين تشريعيين رئيسيين: أولاً، قانون الإجراءات الجزائية المعدل، الذي يوسع صلاحيات المراقبة والاحتجاز، وثانيًا، قانون التعبئة العامة، الذي يسمح للسلطة التنفيذية بتفعيل قوات الأمن والاحتياط دون رقابة برلمانية. هذه الإجراءات تخلق الظروف القانونية لتوسيع القمع الداخلي والعمليات الإرهابية داخل الجزائر. عودة الجنرال عبد القادر آيت وعرابي تفعّل هذه الرؤية، وسنشرح السبب أدناه.


الجنرال عبد القادر آيت وعرابي، المعروف أيضًا بالجنرال حسان, البالغ من العمر 78 عامًا.

الجنرال عبد القادر آيت وعرابي، البالغ من العمر 78 عامًا، كان شخصية بارزة تحت قيادة الجنرال محمد مدين، رئيس جهاز المخابرات والأمن (DRS) السابق. قاد مصلحة تنسيق عمليات الاستخبارات ومكافحة الإرهاب (SCORAT) ومجموعة التدخل الخاصة (GIS). بينما كان عبد القادر حداد – سلفه في المديرية العامة للأمن الداخلي – معروفًا بسلوكه المتقلب، وقراراته المتهورة، ومزاجه العنيف الذي جعله مهابًا وموضع سخرية في الأوساط الأمنية، فإن آيت وعرابي من طينة مختلفة تمامًا. كان يُنظر إلى حداد من قبل الكثيرين على أنه منفذ غاشم: أداة قمع فظة تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية، لا يتحدث الفرنسية، ولا يستطيع كتابة تقرير كامل، ويعتمد على الوحشية الخام بدلاً من الحرفية الاستخباراتية. أما حسان، على النقيض من ذلك، فهو لا يتقن الفرنسية فحسب، بل تدرب أيضًا في أكاديميات عسكرية مرموقة، مع خبرة ميدانية تمتد عبر مالي وتشاد والسنغال وأنغولا. يشمل سجله عقودًا من العمليات السرية: اختراق الشبكات الجهادية، وخطط تحويل مسار الأسلحة، وحملات زعزعة الاستقرار عبر بلدان متعددة. قيادته لمصلحة (SCORAT) جعلته خبيرًا في الحرب الخفية و العمليات عبر واجهات مُموّهة: فهو ذلك الطراز من الضباط الذي يتقن هندسة الوكلاء، والتخفي خلف الواجهات، وفنّ افتعال الأزمات بيدٍ خفية. إعادة تعيينه ليست إجراءً إدارياً عابراً، بل استعادة مدروسة لعقلية متمرّسة في حروب الظل، وصياغة التضليل، وصناعة اللبس المتعمّد باسم الدولة.

يحمل تاريخه الغامض في التعاملات السرّية مع الشبكات الإرهابية سجلاً دموياً ثقيلاً. تتقاطع الوثائق والشهادات حول أدوار محورية تولّاها بنفسه: من تنسيق الدعم اللوجستي الذي قدّمه جهاز المخابرات للمتمردين الإسلاميين في شمال مالي (2012–2013)، إلى زرع خلايا تحت السيطرة في جبل الشعانبي بتونس (2013–2014)، وصولاً إلى إشرافه على وحدتَي SCORAT وGIS، المتوغلتين في اختراق الشبكات المسلحة، بما في ذلك تسليح منفّذي عملية تيقنتورين، وتهريب الأسلحة الليبية، وتشغيل معسكر تاموريت, أحد أكثر المواقع غموضاً في سجل المخابرات الجزائرية.

تاموريت: معسكر سري للإعدام والتدريب تولّى الجنرال عبد القادر آيت وعرابي إدارته مباشرة

معسكر تاموريت، الذي قُدّم علنًا على أنه منشأة تدريب لتنظيم “القاعدة“، كان في الواقع يُدار من قبل جهاز المخابرات الجزائري، الـ DRS. يقع في وادي تاموريت (وادي تامريت) في عمق منطقة الطاسيلي، وعلى بعد أقل من 400 كيلومتر من منشأة تيڤنتورين الغازية. استُخدم المعسكر كـمركز لتجنيد شباب مهمّشين قسرًا، ثم إخضاعهم لبرامج تلقين فكري وتدريب قتالي، قبل إرسالهم لتنفيذ عمليات عنف داخل مناطق لا تربطهم بها أي صلة اجتماعية أو جغرافية. وكان مصيرهم في كثير من الأحيان الإعدام، إما بعد إتمام “المهمة”، أو في حال العصيان أو محاولة الانشقاق.

وادي تاموريت (منطقة وادي تامريت، الإحداثيات الجغرافية على خريطة جوجل) في عمق منطقة الطاسيلي، يبعد أقل من 400 كم عن منشأة تيڤنتورين الغازية قرب إن أميناس، حيث كان يتمركز معسكر سري تابع لجهاز المخابرات والأمن الجزائري (DRS) تحت قيادة الجنرال عبد القادر آيت وعرابي.
وقد تمكّن مصدر محلي، بعد حصوله على إحداثيات دقيقة لبعض مواقع الدفن، من تحديد أماكن القبور السطحية، استخراج بعض الرفات جزئيًا، وتوثيقها بالصور.

تضمّن التدريب في المعسكر تقنيات القنص وطرق الذبح بالسكين. وكان يُنقل إلى الموقع سجناء من مختلف الفئات: ضباط في الجيش، مجندون، مدنيون، ومجرمون عاديون، منهم من مختطفون ومفقودون العشرية السوداء، وذلك بواسطة الجيش الجزائري وجهاز المخابرات (DRS)، ليُستخدموا كأهداف حية في إطار برامج التدريب. صرّح شاهد بأنه شهد قرابة 180 عملية إعدام خلال فترة احتجازه التي دامت سبعة أشهر داخل المعسكر. كانت هناك فرق مكلّفة بعملية “التخلّص من الجثث”، حيث كانت الجثث تُوارى في قبور سطحية. بعض هذه القبور تم تحديد مواقعها لاحقًا، وتمت معاينتها واستخراج الرفات منها جزئيًا.

صورة لقبر تم نبشه جزئيًا في تاموريت (منطقة وادي تامريت، الإحداثيات الجغرافية على خريطة جوجل).
مقبرة جماعية لجهاز المخابرات والأمن (DRS)، تحت قيادة الجنرال عبد القادر آيت وعرابي.

من أبرز الشخصيات التي ارتبط اسمها بـمعسكر تاموريت: عبد الحميد أبو زيد، الذي تولّى قيادة الموقع، وعبد الله الفراتي، الذي كان المدرّب الرئيسي هناك. أما مختار بلمختار، فكان مسؤولًا عن الإمداد واللوجستيات، وكان يزور المعسكر بشكل منتظم، تقريبًا كل أسبوعين. محمد الأمين بوشنب، الذي كُشف لاحقًا كأحد أبرز منفّذي هجوم منشأة الغاز في إن أميناس سنة 2013، كان أحد الوجوه المألوفة في تاموريت، وشوهد مرارًا رفقة أبو زيد وبلمختار، إلى جانب ضباط من الجيش والمخابرات. كما ورد اسم يحيى جوادي ضمن الزوار المتكررين للموقع. اللافت أن عددًا من كبار ضباط جهاز الأمن العسكري والجيش كانوا يتردّدون على المعسكر باستمرار، وبعضهم كان يحضر بشكل شبه يومي. من بينهم: الجنرال رشيد “عطافي” لعلالي، الذي كان حينها يرأس مديرية الأمن الخارجي في جهاز المخابرات (DDSE)، والجنرال عبد القادر آيت وعرابي نفسه. وقد تمّ توثيق زيارتهما الشخصية للموقع.

تم استخدام تاموريت، إلى جانب كونه مركزًا للتدريب والإعدام، كقاعدة لتوثيق وتسجيل المجندين. فقد كان جهاز المخابرات والأمن يوثّق هوياتهم بالكامل: من الصور الشخصية إلى عينات الحمض النووي. ووفقًا لمصادر متعددة، نُقلت هذه البيانات إلى الجزائر العاصمة، وتم تسليم نسخ منها لأجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية. هذا الترتيب يفسّر على الأرجح كيف تمكّنت الأجهزة الغربية من إعداد قوائم بأسماء المئات، وربما الآلاف، من الأشخاص الذين صُنّفوا لاحقًا كعناصر في تنظيم القاعدة، ولماذا كانت تُعلن باستمرار عن “عمليات إحباط” لهجمات إرهابية قبل وقوعها.

يشير المحقّقون إلى أن انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية ارتُكبت في موقع تاموريت (منطقة وادي تامريت، الإحداثيات الجغرافية على خرائط غوغلبمعرفة تامة – وربما بتواطؤ مباشر- من بعض أجهزة الاستخبارات الغربية. لقد ظلّ وجود هذا المعسكر من الأسرار المحصّنة التي جرى التكتّم عليها بعناية، لأنه جزء من شبكة مصالح استراتيجية تربط النظام الجزائري بعواصم القرار الغربية. تم تفكيك الموقع وإغلاقه في حدود عام 2009، قبل أن يُعاد نشر أنشطته في جبال تيغارغار شمال مالي، ضمن إعادة تموضع عملياتية محسوبة.

تونس، ليبيا، إن أميناس: يد الجنرال آيت وعرابي خلف العمليات السرية

في عام 2015، وعلى الرغم من أنه كان رسميًا في حالة “تقاعد” وابتعاد عن الساحة، إلا أن الجنرال عبد القادر آيت وعرابي وجد نفسه مجددًا في قلب صراع قوى شرس بين جناح سعيد بوتفليقة/أحمد ڨايد صالح، وشبكة محمد مدين. اسمه كان يعود للواجهة في كل مرة يُثار فيها ملف أزمة تيڤنتورين، المعروفة أيضًا بـهجوم منشأة الغاز في إن أميناس، التي اندلعت في 16 يناير 2013 واستمرت حتى 19 من الشهر نفسه. خلال تلك العملية، قُتل 39 رهينة (بينهم 10 يابانيين، 8 فلبينيين، 6 بريطانيين، 5 نرويجيين، 3 أمريكيين، 2 ماليزيين، 2 رومانيين، 1 كولومبي، 1 فرنسي, و1 جزائري)، بالإضافة إلى مقتل 29 مسلحًا. آيت وعرابي اعتُقل حينها، وقُدم لمحاكمة سرية، وحُكم عليه ليس بسبب الجرائم الكبرى التي يُشتبه بتورطه فيها، وإنما على أساس تهم إدارية مخففة مثل “عصيان الأوامر” و”تدمير الوثائق“. وكانت تلك المرة الثانية التي يُستدعى فيها للمحاسبة، بعد أن تم إيقاف ملاحقته في المرة الأولى بوساطة أمريكية مباشرة لدى كل من بوتفليقة وڨايد صالح.

الصراع على النفوذ الذي أدى إلى اعتقال آيت وعرابي كشف عن سلسلة طويلة من الجرائم المروّعة والعمليات الإرهابية التي تورّط فيها على مدى سنوات. من أبرز هذه الملفات: عمليات الشعانبي في تونس، التي انطلقت أواخر عام 2012 ضد خلايا جهادية كانت تتحصّن في تضاريس جبل الشعانبي الوعرة على الحدود مع الجزائر. خلال المرحلة الأخيرة من مهامه على رأس مصلحة SCORAT، والتي انتهت بـ”تقاعده” الرسمي في 13 يناير 2014، تعرّضت القوات التونسية لسلسلة من الهجمات: تفجيرات بعبوات ناسفة، وكمائن مسلّحة، واغتيالات موجّهة. بحلول أوائل 2014، قُتل 14 عنصراً من الجيش والحرس الوطني التونسي، وأُصيب العشرات.الكتائب المسلحة، وعلى رأسها كتيبة عقبة بن نافع، كانت تنشط بحرية عبر الحدود بدعم لوجستي جزائري، مستخدمة طرق تهريب تمرّ عبر ليبيا. المخابرات التونسية صادرت أجهزة اتصالات وشرائح هاتفية في المنطقة، تبيّن لاحقاً أنها تتبع شبكات أمنية جزائرية، وتحديداً وحدات تحت إشراف آيت وعرابي في جهاز المخابرات والأمن (DRS). تحليل البيانات كشف اتصالات مباشرة مع مسؤولين أمنيين في الجزائر العاصمة، بأرقامهم وأسمائهم الحركية. هذه المعطيات سُلّمت للمخابرات الأميركية، والتي قامت بدورها بنقلها إلى قيادة الجيش الجزائري, الأمر الذي منح أحمد ڨايد صالح سلاحاً إضافياً في صراعه مع أجنحة DRS.

عملية أخرى، جرت هذه المرة في ليبيا، وتُروى في النسخة “الرسمية”, التي روّج لها إلياس عريبي (المعروف أيضًا بعبدو سمار), بأن وحدة “سكورات” (SCORAT) بقيادة الجنرال عبد القادر آيت وعرابي اعترضت شحنة أسلحة قادمة من ليبيا، أبرزها منظومتان محمولتان للدفاع الجوي (MANPADS). وجاءت هذه العملية، التي انطلقت أواخر 2013، ضمن مهمة سرية تهدف، نظريًا، إلى تتبع خطوط تهريب الأسلحة من ليبيا ما بعد القذافي نحو منطقة الساحل، بغرض كشف وتفكيك الشبكات العابرة للحدود التي تمدّ جماعات مثل “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”بوكو حرام”. رجال DRS كانوا مندسّين داخل هذه الشبكات، متخفّين في هيئة مهربين وسماسرة جهاديين. وأثناء نقل قافلة سكورات لصواريخ الـMANPADS تحت غطاء استخباري، وقع ما لم يكن في الحسبان: وحدات من الجيش الجزائري في تمنراست، التي لم تكن على علم بالعملية، أوقفت القافلة عن طريق الخطأ. الحادث صُوِّر لاحقًا كـ”سوء تنسيق أمني”، لكنه تحوّل إلى المحور الرئيسي في القضية التي استُخدمت لاحقًا ضد آيت وعرابي. غير أن المحققين يؤكدون أن هذا السيناريو الرسمي يخفي عمدًا الخطة الحقيقية: لم تكن الغاية مصادرة الأسلحة وتحجيم الخطر، بل إدخالها مجددًا في السوق السوداء كطُعم لرصد شبكات التهريب وكشف بنيتها التحتية. هذه العملية لم تكن مجرد جمع معلومات… بل تورّط فعلي في اقتصاد التمرد المسلح.

قد يراها البعض “مهمة بطولية”: وحدة نخبة تعترض شحنة أسلحة ليبية، تخترق شبكات التهريب، وتنفذ عمليات تحت غطاء أمني لحماية الأمن القومي. هذا هو السرد الذي يُروَّج له عادة لتبرير أنشطة الاستخبارات السرية. لكن في الواقع، وضمن المعايير المهنية لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، هناك قواعد صارمة تحكم مثل هذه العمليات: الأسلحة التي يتم ضبطها تُدمَّر عادة، أو تُخزَّن تحت إشراف عسكري صارم، أو تُستخدم ضمن عمليات مراقبة محكمة يمكن تتبّعها. دور ضباط الاستخبارات يكون في رسم خريطة الشبكات، وتحديد الأهداف، ودعم عمليات الإنفاذ أو التدخل العسكري و ليس في إطالة أمد التهديد أو إعادة تدويره.

أما في عملية “SCORAT” تحت قيادة الجنرال آيت وعرابي، فقد تم عكس هذه القواعد تمامًا: صواريخ MANPADS لم تُحيَّد، ولم تُتابع، بل أُعيد ضخها في السوق السوداء دون رقابة. العملية لم تكن منسّقة مع الجيش، ما تسبب في احتكاك كاد يتطور إلى صدام مسلح في تمنراست. فقد تجاوزت المهمة حدود جمع المعلومات, لتدخل في صلب اقتصاد التهريب والاضطراب في المنطقة. لم تكن هذه مكافحة إرهاب، بل عقيدة بديلة: زعزعة مدروسة للاستقرار. لم تكتف عملية “SCORAT” باختراق شبكات الإرهاب، بل شاركت في إعادة إنتاجها. لم يكن تجاوز الخط بين المراقبة والإدارة مجرد خطأ… بل كان اختيارًا مقصودًا. إن استخدام صواريخ أرض-جو، إعادة تسويق الأسلحة المضبوطة، وانتحال عملاء الدولة لهوية مهربين جهاديين لا يمثل مكافحة إرهاب بالمعنى المتعارف عليه. بل يعكس منهجًا استخباراتيًا يقوم على إشعال الفوضى بهدف السيطرة. أن تتحرك قافلة “SCORAT” دون تنسيق مع الجيش، وأن تكشف المخابرات التونسية علاقتها بكتيبة عقبة بن نافع، وأن تتدخل واشنطن لتجميد محاكمة الجنرال آيت وعرابي… فكلها ليست علامات بطولة بل مؤشرات على أن العملية كانت خارجة عن السيطرة.

لم تكن العملية الليبية استثناءً، بل كانت جزءًا من نمط منهجي. فهي ترتبط مباشرة بمعسكر تاموريت، وبحصار إن أميناس، وبالنهج الأوسع الذي تبناه جهاز DRS والمتمثل في تسليح وكلاء متمردين لتشكيل موازين القوى في المنطقة. إعادة آيت وعرابي إلى الواجهة ليست قرارًا وظيفيًا بقدر ما هي رسالة واضحة: النظام يضاعف رهانه على نفس الوصفة السوداء التي أغرقت الجزائر وجيرانها طيلة العقدين الأولين من هذا القرن.

من الاتهام إلى البراءة: كيف ولماذا تم احتواء وإسكات محاكمة الجنرال عبد القادر آيت وعرابي

العمليات الغامضة التي قادها عبد القادر آيت وعرابي تحت شعار “مكافحة الإرهاب” في تونس وليبيا والجزائر، انتهى مسارها جميعًا على مكتب أحمد قايد صالح. ففي 8 فبراير 2014، تم اعتقاله لأول مرة. ورغم أن السلطات لم تكشف رسميًا عن تفاصيل التهم حينها، فإن تسريبات وتقارير لاحقة أفادت بأنها شملت اتهامات بالغة الخطورة، وصلت إلى حد توصيفها بـ”الخيانة العظمى”، مثل: “تشكيل جماعات مسلحة”، “الاحتفاظ بأسلحة حربية دون تصريح”، و”تزوير بيانات حول مخزونات الأسلحة”. وكانت تهمة “تشكيل جماعات مسلحة” تُفهم على أنها إنشاء خلايا مسلّحة وجماعات إرهابية تحت غطاء استخباراتي. كما أُضيفت اتهامات تقنية تتعلق بعدم تقديمه حسابات دقيقة للأسلحة التي نُقلت سرًا إلى جماعات إسلامية مسلّحة في مالي سنة 2012. وربط المحققون اعتقاله بأدلة تؤكّد تورط جهاز المخابرات والأمن (DRS) في دعم مجموعات إرهابية تنشط في تونس، خصوصًا من خلال شرائح اتصال (SIM) رُبطت بمقاتلي جبل الشعانبي، وتبين أنها تعمل ضمن قنوات تابعة لوحدة آيت وعرابي. هذه الأدلة حصل عليها الجيش التونسي، ومرّرها إلى الجانب الأميركي، الذي أوصلها بدوره إلى مكتب قايد صالح.

والأهم من ذلك، لم يُنظر إلى اعتقال آيت وعرابي عام 2014 كمجرد إجراء قانوني، بل كجزء من مناورة مدروسة من رئاسة عبد العزيز بوتفليقة والجنرال أحمد قايد صالح، لتحجيم وتوريط الجنرال محمد مدين، الرجل القوي الذي ظل لعقود على رأس جهاز المخابرات والأمن (DRS). كان “حسان” يُعتبر الذراع التنفيذية لمدين، ومن هنا جاءت الضربة. اعتُبر اعتقاله بداية شرارة صراع دموي داخل النظام، بين الجيش والمخابرات، في لحظة إقليمية متفجرة تطغى عليها رياح “الربيع العربي”.

واشنطن تدخلت مباشرة، لأنها لم تكن مستعدة لرؤية أحد أهم حلفائها الإقليميين ينهار من الداخل بسبب تصفية حسابات بين مراكز القوة. فجأة، توقفت إجراءات محاكمة آيت وعرابي العسكرية في منتصف فبراير 2014، وغطى الصمت الملف برمّته في الجزائر. مصادر مطلعة ومقربة تؤكد: التدخل الأميركي حسم الأمر. لكن الأهم من ذلك، أن واشنطن لم تكن لتسمح بأن تنفجر علنًا أسرار تعاونها مع آيت وعرابي والـDRS في ملفات الإرهاب، بسبب نزاع داخلي عبثي في الجزائر. هذا التسريب كان سيوجّه ضربة قاصمة للمصالح الاستراتيجية الأميركية، إذ كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية تعمل “كتفًا بكتف” مع جهاز المخابرات الجزائري، منذ 2002، في ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب في الساحل”. وتُشير مصادر إلى أن التعاون بين الطرفين شمل منذ بداياته تصميم وتنفيذ عمليات إرهابية مفبركة تحت رايات مزيفة، ضمن برنامج P2OG (مجموعة العمليات الاستباقية الوقائية). الهدف؟ خلق ذريعة لفتح جبهة عسكرية جديدة للولايات المتحدة في شمال أفريقيا ضمن حربها العالمية على الإرهاب. وفي كل ذلك، كان الجنرال آيت وعرابي هو الخيط الناظم، والفاعل المحوري.

لو خرجت إلى العلن أسرارُ صِلات عبد القادر آيت وعرابي بالجماعات الإرهابية في محاكمة تحظى بتغطية إعلامية واسعة, على غرار فضائح الخليفة وسوناطراك شكيب خليل أو قضايا جرائم الحرب المنسوبة إلى خالد نزار, لوجدت الولايات المتحدة نفسها، متَّهمة بالتواطؤ في «عمليات الراية المزيَّفة» وغيرها من الأنشطة المشبوهة التي يديرها الـ DRS منذ 2002. ومن منظور واشنطن، كان احتمالُ انكشاف تلك البرامج على منصةٍ قضائية علنية، لا بفعل خصمٍ خارجي بل نتيجة صراع دموي بين محور بوتفليقة-قايد صالح ومنظومة توفيق الراسخة، أمراً غير مقبول. فمثل هذا التسريب كان سيُلحق بالولايات المتحدة ضرراً يُقارن بفضائحها السرّية الكبرى: إيران-كونترا (بيع سلاح لإيران وتمويل «الكونترا» في نيكاراغوا)، برنامج التعذيب والترحيل السرّي بعد 11 سبتمبر، مجزرة ماي لاي والتستّر عليها في فيتنام، و«عملية كوندور» التي رعت الاغتيالات والاختفاءات القسرية بأميركا اللاتينية. في كل تلك المحطات تورّطت واشنطن في عنفٍ سرّي، وتجاوزٍ للقانون، وتحالفٍ مع أنظمة أو جماعات قمعيّة، بدعوى «المصلحة الإستراتيجية». ومجرّد كشف شراكتها الكاملة مع آيت وعرابي كان سيُقوِّض مصداقية أجهزة الاستخبارات الأميركية وعقيدتها في مكافحة الإرهاب بعد 11 سبتمبر.

لهذا حرصت الولايات المتحدة على منع أي تسريبات تُلحق بها أذى أكبر مما قد يلحق بالجزائر. القضية لم تكن ذنب آيت وعرابي بقدر ما كانت الخوف من تعرية شبكةٍ سرّية امتدّت لأكثر من عقد من التعاون الأميركي-الجزائري الملتبس. وتشير معلومات موثوقة إلى اجتماعٍ عُقد في مقر الـ DRS ببن عكنون تزامناً مع الاعتقال الأول لحسان، حضره مسؤولون من أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية إلى جانب الجزائريين؛ وهو ما يُستشهد به دليلاً على صفقةٍ أوقفت المحاكمة. والنتيجة: اختفى اسم الجنرال حسان وتُهمه من التداول لنحو 18 شهراً، قبل أن يُعتقَل مجدداً في منزله بشوفالي (الجزائر العاصمة) بأغسطس 2015.

تجنب البريطانيون عمدًا ذكر أي شيء يتعلق بالجنرال عبد القادر آيت وعرابي خلال التحقيق العام

بالتوازي،في الوقت ذاته، تعمّد التحقيق البريطاني في حصار منشأة الغاز بإن أميناس تجاهل أي ذكر للجنرال عبد القادر آيت وعرابي، أو لجهاز المخابرات الجزائرية (DRS)، أو حتى مجرد التلميح لاحتمال تواطؤ من الدولة الجزائرية. هذا التجاهل لم يكن ناتجًا عن نقص في الأدلة—بل العكس تمامًا.

فقد كانت كل من شرطة لندن وجهاز MI6 على اطّلاع تام بمحاضر استجواب ثلاثة من منفذي الهجوم، ممن تم أسرهم وخرجوا أحياء من المجزرة. هؤلاء، وتحت الحجز الجزائري ثم أمام محققي مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI)، صرّحوا صراحة أنهم تسلّحوا وتلقّوا أوامر مباشرة من رجال الجنرال آيت وعرابي قبل تنفيذ العملية. نُقلت إفاداتهم إلى السلطات الأميركية، التي لم تشكك لحظة في صحتها. وبموجب اتفاق تبادل المعلومات الاستخباراتية بين واشنطن ولندن، كان الجانب البريطاني على علم دقيق بكل التفاصيل.

لكن، بدلًا من التعامل مع هذه المعلومات على نحو شفاف، رفعت الحكومة البريطانية ورقة “حصانة المصلحة العامة” (PII), وهي الآلية القانونية المعروفة سابقًا بـ”امتياز التاج”, لحجب المستندات الحساسة عن المحكمة والجمهور، بحجة “الأمن القومي”. عمليًا، أدى ذلك إلى دفن الملفات المفتاحية المرتبطة بهجوم تيڤنتورين، وتجنّب أي إحراج علني قد يمسّ البنية التحتية لشركة BP، أو يكشف خيوط التعاون الاستخباراتي بين لندن والجزائر، أو يُظهر حجم معرفة البريطانيين بأنشطة جهاز DRS. وفي 27 أوت 2015، أُلقي القبض على الجنرال آيت وعرابي مجددًا، وصدر حكم بإدانته. وفي نفس اليوم، حطّت طائرة مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، جيمس كلابر، في زيارة غير معلنة. فُهمت هذه الزيارة كخطوة طارئة لضبط الوضع، بعد أن بدأت المعلومات عن دور آيت وعرابي في إن أميناس تطفو على السطح. لكن هذه المرة، لم تتدخّل واشنطن لحمايته كما في السابق، بل اختارت احتواء الفضيحة بهدوء: تم إعادة صياغة التهم بشكل مدروس، لتُختزل إلى مخالفات إدارية: “عصيان أوامر” و”تدمير وثائق سرية”، فيما اختفت التهم المتعلقة بالإرهاب تمامًا من السجل.

جرت المحاكمة خلف أبواب مغلقة في وهران، دون حضور إعلام أو مراقبين أو حتى أفراد العائلة. وبعد أربع سنوات، ثبّتت محكمة الاستئناف العسكرية بالبليدة الحكم، وأنهى الجنرال حسان محكوميته في 28 نوفمبر 2020. لكن في مارس 2021، صدر قرار بتبرئته الكاملة من قبل نفس القضاء العسكري، لتنطوي الصفحة كما بدأت: في الظل، بلا ضجيج، وبكثير من التواطؤ المقنن.

نظام عدم الاستقرار المُدار لجهاز المخابرات والأمن (DRS)

من أعمق الأسرار المظلمة المرتبطة بجهاز المخابرات والأمن الجزائري، تحت قيادة الجنرال محمد مدين والجنرال عبد القادر آيت وعرابي، هو مستوى التعاون الوثيق الذي جمعهما بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ووكالة استخبارات الدفاع (DIA)، وجهاز الاستخبارات البريطاني MI6، في سياق عمليات سرية عابرة للحدود. هذا التعاون، الذي انطلق بعد أحداث 11 سبتمبر، تجاوز حدود تبادل المعلومات إلى العمل “يدًا بيد” مع جهاز المخابرات والأمن، الذي كان في الوقت ذاته متورطًا في التلاعب بجماعات جهادية بالوكالة في منطقتي الساحل والمغرب العربي، من خلال اختراقها وتسليحها وتوجيهها ونشرها وفقًا لأجندته. لم تقتصر هذه العمليات على التنسيق الاستخباراتي، بل شملت تخطيطًا مشتركًا على طريقة مجموعة العمليات الاستباقية الوقائية (P2OG)، حيث أقدمت الولايات المتحدة والجزائر على فبركة عمليات إرهابية تحت “راية مزيفة” في عمق الصحراء الجزائرية. قام عملاء DRS إما بتنفيذ أو تسهيل هجمات أُلبست طابع “التمرد الإسلامي”، مستغلين جماعات يديرها الجهاز أو يخترقها، بهدف دعم السردية الأمريكية لفتح جبهة جديدة في الحرب العالمية على الإرهاب (GWOT) في إفريقيا، وتبرير انتشار القوات الأمريكية والبريطانية (قواعد أفريكوم، منصات الطائرات بدون طيار، إلخ)، وخدمة مصالح الطاقة والاستراتيجيات الغربية. وقد جرى توظيف هذه العمليات كلما رآها الجهاز مفيدة لأهدافه، بما فيها حماية أو تعزيز النفوذ على منشآت نفط وغاز استراتيجية.

من جهتها، كانت الدولة البريطانية، عبر أجهزتها الاستخباراتية MI6، وشركاتها العملاقة مثل بريتيش بتروليوم (BP)الشريك في مشروع إن أميناس المشتر- ترتبط بمصالح حيوية مع هذا الجهاز. ونسج MI6 علاقات وثيقة مع النظام الجزائري وجهاز مخابراته من خلال شخصيات محورية مثل السير مارك آلن)، رجل أعمال ونائب سابق لرئيس MI6 ورئيس وحدة مكافحة الإرهاب، الذي أصبح لاحقًا مستشارًا لرئيس مجلس إدارة BP.كذلك، كان السير جون سويرز, رئيس MI6 من عام 2009 حتى نهاية 2014، والذي زار الجزائر رفقة ديفيد كاميرون بعد هجوم إن أميناس,انضم لاحقًا إلى مجلس إدارة BP كمدير غير تنفيذي في مايو 2015. وتفيد المصادر أن سويرز كان مطّلعًا بدقة على أساليب وأجندات DRS بحكم العلاقات الوثيقة التي نسجتها المملكة المتحدة مع هذا الجهاز خلال ولايته.

تؤكد مصادر مطلعة أن كشف الدور الحقيقي لـ DRS، وبالتحديد دور آيت وعرابي في هجوم إن أميناس, بما في ذلك مزاعم تسليح الإرهابيين, كان سيُفضي إلى فضيحة مزدوجة تطال جهاز DRS نفسه، وشركة BP، والحكومة البريطانية (وايتهول). والسبب أن أجهزة الاستخبارات الغربية كانت على علم وارتباط وثيق بحسان وDRS منذ 2002، من خلال ما تسميه المصادر “عمليات مكافحة الإرهاب المشكوك فيها“. تشير هذه المصادر بقوة إلى أن شهادة حصانة المصلحة العامة (PII)، التي لجأت إليها الحكومة البريطانية خلال التحقيق في إن أميناس، لم تكن لحماية “الأمن القومي” كما ادُّعي، بل للتستر على وقائع إدانة حساسة، وحماية منظومة كاملة من التواطؤ والتنسيق المشترك. من بين الأسباب: 1) منع كشف اعترافات الإرهابيين المقبوض عليهم بأنهم تلقوا السلاح من DRS/حسان,2) منع نشر معلومات استخباراتية مثل البريد الإلكتروني الذي أُعيد توجيهه من هيلاري كلينتون وكشفه لاحقًا موقع ويكيليكس، والذي أشار إلى إحاطة استخباراتية من DGSE الفرنسية بشأن هجوم تيڤنتورين, تكشف وجود تنسيق بين DRS ومختار بلمختار، “العقل المدبر” للهجوم,3) تفادي إحراج لندن أمام المجتمع الدولي بإظهار دعمها الضمني لأنشطة DRS، بما فيها إدارة معسكر تاموريت المشتبه في ارتكاب جرائم حرب بداخله. لو تم الكشف، لانفضحت حقيقة أن وكالات غربية كانت على علم تام بأساليب DRS, بما في ذلك آيت وعرابي, في اختراق وإنشاء الجماعات المسلحة، واستمرت في العمل معه حتى بعد ظهور أدلة دامغة (كاعترافات المهاجمين في تيڤنتورين) تفيد بتورطه في عمليات أودت بحياة مواطنين غربيين.

وتفيد تقارير أن الولايات المتحدة تدخلت في صراعات السلطة داخل الجزائر (بين سعيد بوتفليقة/قايد صالح من جهة، ومحمد مدين من جهة أخرى) جزئيًا لمنع تسريب أسرار التعاون بين آيت وعرابي والجماعات الإرهابية، لا سيما وأن الاستخبارات الأمريكية كانت قد تعاملت معه بشكل مباشر منذ عام 2002، ما يجعلها طرفًا متورطًا في أعين القانون والرأي العام.

ابتزاز معلن: جهاز المخابرات والأمن يهدد بكشف التواطؤ الغربي في فظائعهم، لكن ما كان ممكنًا في 1992 أو 2002 أو حتى 2012 لم يعد ممكنًا في 2025, فالعالم والتحالفات قد تغيرت.

إعادةُ تفعيل منصب عبد القادر آيت وعرابي في 2025، بذريعة «استقرار النظام» وتهدئة التوتّر مع باريس، ليست صدفة ولا «تبييضَ» ماضٍ؛ إنّها عودةٌ مدروسة لضابطٍ يحفظ الأرشيف السرّي الكامل لإرهاب الدولة، رجلٍ أصبح صمته رأسَ مالٍ استراتيجياً، وتاريخه الدموي ضمانة لبقاء النظام لا عبئًا عليه. قرارُ تنصيبه ليس غصنَ زيتون لفرنسا، بل خطوةٌ محسوبةٌ من جهاز محمد مدين العتيق لإحياء «دولة الـ DRS» بشروطها. ومع وجود تشريعاتٍ شبهِ عرفيّةٍ وتصاعدِ الغضب الشعبي، يستعدّ النظام لسيناريوهاتٍ تُعاد فيها صناعةُ حوادثَ داخليةٍ مُفبركة, استُخدمت سابقاً لا لتبرير القمع فحسب، بل لإعلان حالة طوارئ عسكرية.

النظام لا ينوي التهدئة: يُرسل تعيين آيت وعرابي إشارةً صريحةً إلى العواصم الغربية: صاحب الخبرة العملياتية في البرامج السرّية المشتركة بات في موقع القرار. وأيُّ ضغطٍ على الجزائر قد يفتح ملفاتٍ بالغة الخطورة عن عمليات الراية المزيّفة، وإدارة الوكلاء المسلّحين، وتقاطعات الاستخبارات مع قطاع الطاقة. النظام لا يهدّئ؛ إنّه يُحكم تحصين جهازه الأمني. خلفيةُ آيت وعرابي وسجله على رأس المديرية العامة للأمن الداخلي تكشفان استراتيجية حكمٍ قائمة على «اللااستقرار المُدار»، لا الدبلوماسية. ويرى المراقبون الخطوة تموضعاً استباقياً استعداداً لتدابير قسرية قد تُبرَّر بـ«حوادث أمنية» مُفبركة تُعيد إنتاج نمط التسعينيات.

لكن ما لا يُدركه ثلاثيّ الشيخوخة الحاكم في الجيش الجزائري المتمثل في سعيد شنقريحة (79 عامًا)، ومحمد مدين (85 عامًا)، والجنرال حسان (78 عامًا) – وجميعهم يقتربون من نهاية حياتهم السياسية والبيولوجية – هو أنّ المشهد الجيوسياسي تبدّل جذرياً. إدارةُ دونالد ترامب لا يعنيها الإبقاءُ على معمار «الحرب على الإرهاب» ما بعد 11 سبتمبر؛ وقد أعلن ترامب حرباً علنيّة على مؤسّسة الاستخبارات الأميركية وإرث تدخلاتها العالمية. تحالفاتُ 2002 وأولوياتها سقطت. الـ DRS لم يعُد يستطيع الاتكال على تستّرٍ هادئٍ أو تساهلٍ استراتيجي من واشنطن, ولا من لندن أو باريس.

ما بوسع هذه الحلقة الضيقة إلّا إرجاء الحتمي: كسب الوقت حتى يدركهم الموت، بينما يأملون في قمع أكثر الاكتشافات إدانة. وتشمل هذه استخدام جهاز المخابرات والأمن للإرهاب بالوكالة، والاستهداف المتعمد للمدنيين، وإخفاء عمليات الإعدام الجماعي في مقابر سرية في جميع أنحاء الجزائر.

✍️ عبد الرحمن فارس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى